سورة عبس - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (عبس)


        


العبوس: تقطب الوجه واربداده عند كراهية أمر، وفي مخاطبته بلفظ ذكر الغائب مبالغة في العتب لأن في ذلك بعض الإعراض، وقال كثير من العلماء وابن زيد وعائشة وغيرها من الصحابة: لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من الوحي، لكتم هذه الآيات، وآيات قصة زيد وزينب بنت جحش، والتولي: هنا الإعراض، و{أن}: مفعول من أجله، وقرأ الحسن {أن جاءه} بمدة تقرير وتوقيف والوقف مع هذه القراءة على {تولى} وهي قراءة عيسى. وذكر الله تعالى ابن مكتوم بصفة العمى ليظهر المعنى الذي شأن البشر احتقاره، وبين أمره بذكر ضده من غنى ذلك الكافر، وفي ذلك دليل على أن ذكر هذه العاهات متى كانت المنفعة أو لأن شهرتها تعرف السامع صاحبها دون لبس جائز، ومنه قول المحدثين سلمان الأعمش وعبد الرحمن الأعرج وسالم الأفطس ونحو هذا.
ومتى ذكرت هذه الأشياء على جهة التنقيص فتلك الغيبة، وقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة تذكر امرأة، فقالت: إنها القصيرة، فقال لها: لقد قلت كلمة لو مزجت بالبحر لمزجته ثم خاطب تعالى نبيه فقال: {وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى} أي وما يطلعك على أمره وعقبى حاله، ثم ابتدأ القول: {لعله يزكى} أي تنمو بركته وتطهره لله وينفعه إيمانه، وأصل {يزكى}: يتزكى، فأدغم التاء في الزاي وكذلك {يذكر}، وقرأ الأعرج. {يذْكُر} بسكون الذال وضم الكاف، ورويت عن عاصم، وقرأ جمهور السبعة: {فتنفعُه} بضم العين على العطف، وقرأ عاصم وحده والأعرج: {فتنفعَه} بالنصب في جواب التمني، لأن قوله {أو يذكر} في حكم قوله: {لعله يزكى}، ثم أكد تعالى عتب نبيه عليه السلام بقوله: {أما من استغنى} أي بماله، و: {تصدى} معناه: تتعرض بنفسك، وقرأ ابن كثير ونافع: {تصّدى} بشد الصاد على إدغام التاء، وقرأ الباقون والأعرج والحسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى والأعمش: {تصَدى}، بتخفيف الصاد على حذف التاء وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: {تُصَدى}، بضم التاء وتخفيف الصاد على بناء الفعل للمجهول، أي تصديك حرصك على هؤلاء الكفار أن يسلموا، تقول: تصدى الرجل وصديته، كما تقول: تكسب وكسبته، ثم قال تعالى محتقراً لشأن الكفار: {وما عليك ألا يزكى} وما يضرك ألا يفلح، فهذا حض على الإعراض عن أمرهم، وترك الأكتراث بهم، ثم قال مبالغاً في العتب: {وأما من جاءك يسعى} أي يمشي، وقيل المعنى: {يسعى} في شؤونه وأمر دينه وتقربه منك، {وهو يخشى} الله تعالى، {فأنت عنه تلهى} أي تشتغل، تقول لهيت عن الشيء ألهى إذا اشتغلت وليس من اللهو الذي هو من ذوات الواو، وإما أن المعنى يتداخل، وقرأ الجمهور من القراء: {تَلهى} بفتح التاء على حذف التاء الواحدة، وقرأ ابن كثير فيما روي عنه {تلهى} بالإدغام، وقرأ طلحة بن مصرف: {تتلهى} بتاءين، وروي عنه {تَلْهى} بفتح التاء وسكون اللام وتخفيف الهاء المفتوحة، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع: {تُلْهى} بضم التاء وسكون اللام أي يلهيك حرصك على أولئك الكفار، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «وما استأثر الله به فَالْهَ عنه» وقوله تعالى في هاتين: {وأما من} فالسبب ما ذكر من كفار قريش وعبد الله بن أم مكتوم، ثم هي بعد تتناول من شركهم في هذه الأوصاف، فحَمَلَهُ الشرع والعلم مخاطبون في تقريب الضعيف من أهل الخير وتقديمه على الشريف العاري من الخير، بمثل ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه السورة، ثم قال: {كلا} يا محمد أي ليس الأمر في حقه كما فعلت إن هذه السورة والقراءة التي كنت فيها مع ذلك الكافر {تذكرة} لجميع العالم لا يؤثر فيها أحد دون أحد، وقيل المعنى أن هذه المعتبة تذكرة لك يا محمد ففي هذا التأويل إجلال لمحمد صلى الله عليه وسلم وتأنيس له، وقوله تعالى: {فمن شاء ذكره} يتضمن وعداً ووعيداً على نحو قوله تعالى: {فمن شاء اتخذ إلى ربه ومآباً} [النبأ: 39] وقوله تعالى: {في صحف} يتعلق بقوله: {إنها تذكرة}، وهذا يؤيد أن التذكرة يراد بها جميع القرآن وقال بعض المتأولين: الصحف هنا اللوح المحفوظ، وقيل: صحف الأنبياء المنزلة، وقيل: مصاحف المسلمين، واختلف الناس في السفرة، فقال ابن عباس: هم الملائكة لأنهم كتبة يقال: سفرت أي كتبت، ومنه السفر، وقال ابن عباس أيضاً: الملائكة سفرة لأنهم يسفرون بين الله تعالى وبين أنبيائه، وقال قتادة: هم القراء وواحد السفرة سافر، وقال وهب بن منبه: هم الصحابة لأنهم بعضهم يسفر إلى بعض في الخبر والتعليم، والقول الأول أرجح، ومن اللفظة قول الشاعر: [الوافر]
وما أدع السفارة بين قومي *** وما أسعى بغش إن مشيت
و الصحف على هذا صحف عند الملائكة أو اللوح، وعلى القول الآخر هي المصاحف، وقوله تعالى: {قتل الإنسان ما أكفره} دعاء على اسم الجنس وهم عموم يراد به الخصوص، والمعنى: قتل الإنسان الكافر، ومعنى {قتل} أي هو أهل أن يدعى عليه بهذا، وقال مجاهد: {قتل} بمعنى لعن، وهذا تحكم، وقوله تعالى: {ما أكفره} يحتمل معنى التعجب، ويحتمل معنى الاستفهام توقيفاً أي أيّ شيء {أكفره} أي جعله كافراً، وقيل إن هذه الآية نزلت في عتبة بن أبي لهب، وذلك أنه غاضب أباه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ثم إن أباه استصلحه وأعطاه مالاً وجهزه إلى الشام، فبعث عتبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إني كافر برب النجم إذا هوى، فيروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم ابعث عليه كلبك حتى يأكله» ويروى أنه قال: «ما يخاف أن يرسل عليك كلبه»، ثم إن عتبة خرج في سفرة فجاء الأسد فأكله بين الرفقة.


قوله تعالى: {من أي شيء خلقه} استفهام على معنى التقرير على تفاهة الشيء الذي خلق الإنسان منه، وهي عبارة تصلح للتحقير والتعظيم والقرينة تبين الغرض، وهذا نظير قوله: {لأي يوم أجلت ليوم الفصل} [المرسلات: 13] واللفظ المشار إليه ماء الرجل وماء المرأة، وقرأ جمهور الناس: {فقدّره} بشد الدال، وقرأ بعض القراء: {فقدّره} بتخفيفها، والمعنى جعله بقدر واحد معلوم من الأعضاء والخلق والأجل وغير ذلك من أنحائه حسب إرادته تعالى في إنسان إنسان، واختلف المتأولون في معنى قوله: {ثم السبيل يسره} فقال ابن عباس وقتادة وأبو صالح والسدي: هي سبيل الخروج من بطن المرأة ورحمها، وقال الحسن ما معناه: إن {السبيل} هي سبيل النظر القويم المؤدي إلى الإيمان، وتيسره له هو هبة العقل، وقال مجاهد: أراد {السبيل} عامة اسم الجنس في هدى وضلال أي يسر قوماً لهذا كقوله تعالى: {إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً} [الإنسان: 3]، وقوله تعالى: {وهديناه النجدين} [البلد: 10] وقوله تعالى: {فأقبره} معناه أمر أن يجعل له قبر، وفي ذلك تكريم لئلا يطرح كسائر الحيوان، والقابر هو الذي يتناول جعل الميت في قبره، والمقبر الذي يأمر بقبر الميت، ويقرره، و{أنشره} معناه: أحياه، يقال: نشر الميت وأنشره الله، وقوله: {إذا شاء} يريد إذا بلغ الوقت الذي شاءه وهو يوم القيامة، وقرأ بعض القراء: {شاء أنشره} بتحقيق الهمزتين، وقرأ جمهور الناس: {شاء أنشره} بمدة وتسهيل الهمزة الأولى، وقرأ شعيب بن أبي حمزة: {شاء نشره}، وقرأ الأعمش: {شاء انشره} بهمزة واحدة، وقوله تعالى: {كلا لما يقض ما أمره} رد لما عسى أن للكفار من الاعتراضات في هذه الأقوال المسرودة ونفي مؤكد لطاعة الإنسان لربه وإثبات أنه ترك حق الله تعالى، ولم يقض ما أمره، قال مجاهد: لا يقضي أحد أبداً ما افترض عليه، ثم أمر تعالى الإنسان بالعبرة والنظر إلى طعامه والدليل فيه، وذهب أبيّ بن كعب وابن عباس والحسن ومجاهد وغيره إلى أن المراد {إلى طعامه} إذا صار رجيعاً ليتأمل حيث تصير عاقبة الدنيا، وعلى أي شيء يتفانى أهلها وتستدير رحاها، وهذا نظير ما روي عن ابن عمر: أن الأنسان إذا أحدث فإن ملكاً يأخذ بناصيته عند فراغه فيرد بصره إلى نحوه موقفاً له ومعجباً فينفع ذلك من له عقل، وذهب الجمهور إلى أن معنى الآية: فلينظر إلى مطعوماته وكيف يسرها الله تعالى له بهذه الوسائط المذكورة من صب الماء وشق الأرض، ويروى أن رجلاً أضافه عابد فقدم إليه رغيفاً قفازاً فكأن الرجل استخشنه فقال له: كله فإن الله تعالى لم ينعم به وكمله حتى سخر فيه ثلاثمائة وستين عاملاً الماء والريح والشمس ثلاثة من ذلك، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: {أنّا صببنا} بفتح الألف على البدل وهي قراءة الأعرج وابن وثاب والأعمش، ورد على هذا الإعراب قوم بأن الثاني ليس الأول وليس كما ردوا لأن المعنى: {فلينظر الإنسان} إلى إنعامنا في طعامه فترتب البدل وصح، {وأنا} في موضع خفض، وقرأ الجمهور: {إنا} بكسر الألف على استئناف تفسير الطعام، وقرأ بعض القراء: {أنى} بمعنى كيف ذكرها أبو حاتم، وصب الماء: هو المطر، وشق الأرض: هو بالنبات، والحب: جمع حَبة بفتح الحاء وهو كل ما يتخذه الناس ويربونه كالقمح والشعير ونحوه، والحِبة بكسر الحاء كل ما ينبت من البزور ولا يحفل به ولا هو بمتخذ، والقضب قال بعض اللغويين: هي الفصافص، وهذا عندي ضعيف، لأن الفصافص هي للبهائم فهي دخل في الأبّ، وقال أبو عبيدة: القضب الرطبة، قال ثعلب: لأنه يقضب كل يوم.
والذي أقوله إن القضب هنا هو كل ما يقضب ليأكله ابن آدم، وغضاً من النبات كالبقول والهِلْيُون ونحوه، فإنه من المطعوم جزء عظيم ولا ذكر له في الآية إلا في هذه اللفظة، والغُلب الغلاط الناعمة، والحديقة الشجر الذي قد أحدق بجدار أو نحوه، والأبّ: المرعى قاله ابن عباس ومجاهد وابن زيد وقتادة، وقال الضحاك: الأبّ: التبن، وفي اللفظة غرابة وقد توقف في تفسيرها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، و{متاعاً} نصب على المصدر، والمعنى تتمتعون به أنتم وأنعامكم، فابن آدم في السبعة المذكورة، والأنعام في الأبّ.


{الصاخة}: اسم من أسماء القيامة، واللفظة في حقيقتها إنما هي لنفخة الصور التي تصخ الآذان أي تصمها، ويستعمل هذا اللفظ في الداهية التي يصم نبؤها الآذان لصعوبته، وهذه استعارة وكذلك في الصيحة المفرطة التي يصعب وقعها على الأذن، ثم ذكر تعالى فرار المرء من القوم الذين معهودهم أن لا يفر عنهم في الشدائد، ثم رتبهم تعالى الأول فالأول محبة وحنواً، وقرأ أبو أناس جوية {من أخيهُ وأمهُ وأبيهُ} بضم الهاء في كلها، وقال منذر بن سعيد وغيره: هذا الفرار هو خوف من أن يتبع بعضهم بعضاً بتبعات إذ الملابسة تعلق المطالبة، وقال جمهور الناس: إنما ذلك لشدة الهول على نحو ما روي أن الرسل تقول يومئذ نفس نفسي لا أسألك غيري، والشأن الذي يغنيه: هو فكرة في سيئاته وخوفه على نفسه من التخليد في النار، والمعنى {يغنيه} عن اللقاء مع غيره والفكرة في أمره، قال قتادة: أفضى كل إنسان إلى ما يشغله عن غيره. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: «لا يضرك في القيامة كان عليك ثياب أم لا»، وقرأ هذه الآية وقال نحوه: لسودة، وقد قالتا: واسوأتاه ينظر بعض الناس إلى بعض يوم القيامة، وقرأ جمهور الناس: {يُغنيه} بالغين منقوطة وضم الياء على ما فسرناه، وقرأ ابن محيصن والزهري وابن السميفع: {يَعَنيه} بفتح الياء والعين غير منقوطة من قولك عناني الأمر أي قصدني وأردني. ثم ذكر تعالى اختلاف الوجوه من المؤمنين الواثقين برحمة الله حين بدت لهم تباشيرها من الكفار، و{مسفرة}: معناه: نيرة باد ضوؤها وسرورها، و{ترهقها} معناه تلح عليها، والقترة الغبار والغبرة الأولى إنما هي العبوس والهم كما يرى على وجه المهموم والميت والمريض شبه الغبار، وأما القترة فغبار الأرض ويقال إن ذلك يغشاهم من التراب الذي تعوده البهائم، ثم فسر تعالى أصحاب هذه الوجوه المغبرة بأنهم الكفرة قريش يومئذ ومن جرى مجراهم قديماً وحديثاً.
نجز تفسير سورة {عبس} والحمد لله كثيراً.